قال
الحسن رحمه الله: [
ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت ]. أي: كل الناس موقنين بالموت، فهو يقين لا شك فيه، فالواجب أن يكون ذلك دافعاً وحافزاً على الطاعة، والإنابة واغتنام الوقت والعمر، وكل لحظة ودقيقة لابد أن تكون فيما يقربك إلى الله، لكن الناس جعلوه كأنه لا يقين فيه، ولو سألت أي واحد ممن يؤمن بالموت: أتؤمن بالموت؟ فيقول: أنا أؤمن بالآخرة، وأن الله تعالى يبعث من في القبور، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيءٍ قدير، وفي كل صلاة نقول بعدها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، فالكلام نظرياً مؤمن به لا نقاش فيه، فهو يؤمن بالموت وبالبعث، لكن إن نظرت إلى حياته ستجد أنه يحلم ويخطط ويتكلم كلام من قال الله تبارك وتعالى فيهم: ((
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ ))[الحجر:3]، فهو لا يدري، وهو غافل في هذا الأمل الطويل جداً، فيهرم ابن آدم ويشيب ويشبُّ معه اثنان: الحرص وطول الأمل، وبعد ذلك أي جيل حي يظن أن ما قبله من الأجيال ما هي إلا أخبار، والمستقبل يمكن أن لا يأتي، أي: أن الدنيا هي نحن، والحياة هي نحن، والكون هو أنا، وعمري أنا هو الدنيا، وتفكير أكثر الخلق هو هذا، بينما حقيقة الأمر أن الله تعالى جعلنا خلائف، أي: عبارة عن خط في سلم أو مسطرة، أو رقم من هذه الأرقام، وقبلك من عاش كان يظن مثل ظنك ويؤمَّل كأملك، بل حتى ذكر الله تعالى ما هو أشد من هذا: وهو أن الذين من قبل: ((
َأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ))[الروم:9]، فماذا تظنون؟ لنفرض أن المخاطبين هم كفار العرب، فماذا عملتم؟ بنيتم الكعبة؟ يمكن أن هذا أكبر بناء بناه العرب، أو دار الندوة، فأين هي من عاد، إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وما شادت وما بنت؟ أين هي من ثمود: ((
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ))[الفجر:9]، أي: قطعوا، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، فماذا فعلتم أنتم يا معشر قريش؟! ولهذا خاطب هود عليه السلام قومه عاداً فقال: ((
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ *
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * ((
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ))[الشعراء:128-130]، و هم الذين قالوا: ((
مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ))[فصلت:15]؟ أي: هل هناك من هو أقوى منا؟ فهذا هو غرور الكافرين، قال تعالى: ((
إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ))[الملك:20]، سواء كانوا دولة من الدول، أو مجتمعاً من المجتمعات، فتقول له: انتبه! نخشى عليكم، نخاف عليكم، فسيقول لك: أهناك أقوى منا؟ أهناك أشد منا قوة؟ فهم كعاد يقولون: من الذي يمكن أن يحاربنا؟ لا الروم ولا الفرس ولا
الهند ، بل لا يقفون أمامنا ولا لحظة، وكل الأمم التي كانت حولهم في العالم تلك الفترة، يرون أنفسهم أنهم أقوى شيء، ونسوا أن الله الذي خلقهم وأعطاهم القوة، هو أقوى منهم، ولذلك لا يبالي الناس، ونحن ننظر اليوم دول الكفر الظالمة الباطشة الطاغية، إن خوفتها وذكرتها بالله تقول: تخوفنا من ماذا؟ هل هناك دولة أقوى منا؟ فلا يمكن أن يصدقوا أن هناك أقوى منهم؛ لأنهم ينسون قوة الله، قال تعالى: ((
نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ))[الحشر:19]، فهذا الغرور يقع، فكل جيل ينسى، سواء كان أمة أو فرداً، فالأمة تنسى ما حدث للأمم قبلها، والفرد ينسى ما حدث للأفراد من قبله، والحياة عنده هي حياته هو، ولهذا يتكلم عن آبائه على أنهم أحاديث قد انتهت، وأولاده يقول: هؤلاء أطفال، بينما ولادة الطفل أو وجوده معناه: ابتعد أنت عن الطريق، فأنت تبني البيت له، فهو الذي سيرث البيت والشركات والأعمال، فالولد ينظر أن هذا البيت بيته، وهذا الملك ملكه، وهذا الشغل شغله، والأب يرى أن الدنيا كلها ملكه، حتى لو كان عمره ثمانين سنة، وأولاده على ستين سنة، وهكذا الغرور، لكن في آخر الأمر من بيتك الذي بنيت، أو بيوتك الكثيرة وعمائرك الكثيرة التي بنيت وتعبت فيها، إذا كانوا من المحسنين الطيبين أعطوك غرفة الشايب، وأحضروا لك خادماً، وهم بذلك يعتبرون من الأبناء البارين، أما الشركات والمؤسسات والأعمال فهذه ملكهم، أي: ملك الأبناء، والوالد قد كبر في السن وهرم وخرف، ولم يبق له إلا غرفة واحدة، وهكذا العبر عظيمة لكن لا أحد يعتبر؛ لأن الأب هذا هو نفسه كان ينظر إلى أبيه نفس النظرة، وكذلك الأبناء، وقليل من وفقه الله وأدرك أهمية الموت، وكان له دافعاً إيجابياً، ونحن لا نقول: الموت بالمفهوم الصوفي، أو بمفهوم
أبي العتاهية وأمثاله، أي: ما دام أننا سنموت فلا نعمل ولا نتزوج ولا نتاجر ولا نكدح ولا نشتغل، فهذا ليس من ديننا في شيء، إذ إن الموت عندنا يؤدي إلى عمل إيجابي، من التقوى والاجتهاد والسعي والحرص على ما ينفع، والاستغناء عن الخلق، والعمل لدنياي ولأهلي ولأقاربي، بل على عامة المسلمين وفقرائهم ما استطعت، وكل ذلك وأنا موقن بأنني مستخلف في هذا المال، وأن العمر محدود، وأنه محسوب عليَّ، وأنه لا بد أن أتقي الله تبارك وتعالى فيه، وهذه المسألة لا تخفى، لكن الواجب التذكير بها، فيقول: الشاهد أن ألم الموت عظيم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا وإياكم على سكرات الموت.